الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: على أحد التأويلات فيه، وأصل المرود على ما ذكره علي بن عيسى الملاسة ومنه صرح ممرد، والأمرد الذي لا شعر على وجهه، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئًا، وقال ابن عرفة: أصله الظهور ومنه قولهم: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت عيدانها، وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو ما رد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وفسروه بالاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ما هرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من بلوغ الغاية، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة واستظهر ذلك، وقيل: إنه الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الأعراب المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله للفريقين؛ ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا اقتضى الأشدية فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه: {الأعراب أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97] بأهل الحضر، ولعل المراد تفضيل المجموع على المجموع أو يلتزم عدم الاقتضاء. وقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُهُمْ} بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم، وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم عليه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالمًا بهم، ولا حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفولين وتقدير المفعول الثاني أي لا تعلمهم منافقين، وقيل: المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالًا، وما ذكرناه لما فيه من المبالغة ما فيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من وهم لاسيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة، وقد فسر العلم هنا بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عند أبو الشيخ. نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير أولى من التقدير. والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لا يقف على سرائرهم المركوز فيهم إلا من لا تخفى عليه خافية لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطال الكفر وإظهار الإخلاص، وأمر تعليق العلم هنا كؤمر تعليق نفيه فيما مر. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها. وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون. فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئًا ما تكلفه نبي قال نوع عليه السلام و{مَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الشعراء: 112] وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل في الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا الباب جدا {سَنُعَذّبُهُم} ولابد لتحقيق المقتضى فيهم عادة {مَّرَّتَيْنِ}. أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبًا فقال: «قم يا فلان فأخرج فإنك منافق أخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا الناس لم ينصرفوا فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر. وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلًا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين بالجوع والقتل، ولعل المراد به خوفه وتوقعه، وقيل: هو فرضى إذا أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنه أنهم عذبوا بالجوع مرتين، وعن الحسن أن العذاب الأول أحذ الزكاة والثاني عذاب القبر. وعن ابن إسحاق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر، ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى: {فارجع البصر كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] لقوله سبحانه: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ في كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة الكبرى {إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} هو عذاب النار، وتغيير الأسلوب على ما قيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب أسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالًا وإن الأول خاص بهم وقوعًا وزمانًا يتولاه الله سبحانه وتعالى؛ والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعًا وزمانًا وإن اختلفت طبقات عذابهم، ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملًا لعامة الكفرة نعم هو شامل لعامة المنافقين فقط، وقد يقال: إن في بناء {يُرَدُّونَ} لما لم يسم فاعله من التعظيم ما فيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير السبك إليه والله تعالى أعلم. اهـ. .قال القاسمي: قال في الانتصاف: وكأن قوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} توطئة لتقرير خفاء حالهم عنه صلى الله عليه وسلم، لما لهم من الخبرة في النفاق والضراوة به. انتهى. وقوله تعالى: {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق، أي: لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لما هم عليه من شدة الإهتمام بإبطان الكفر، وإظهار الإخلاص. وقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} للمفسرين في المرتين وجوه: إظهار نفاقهم وإحراق مسجد الضرار، أو الفضيحة وعذاب القبر، أو أخذ الزكاة لما أنهم يعدّونها مغرمًا بحتًا، ونهك الأبدان، وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب. وقال محمد بن إسحاق: هو- فيما بلغني عنهم- ما هم من أمر الإسلام، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها، ثم العذاب العظيم الذي يُرَدُّون إليه، عذاب الآخرة، ويخلدون فيه. قال أبو السعود: ولعل تكرير عذابهم، لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق، أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه. ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير، كما في قوله تعالى: {فَارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي: كرة بعد أخرى، لقوله تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ}. .تنبيه [في قوله تعالى: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}]: وأصغى إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال: «إن في أصحابي منافقين، أي: يرجفون ويتكلمون بما لا صحة له». وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء، أن رجلًا يقال له حرملة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى لسانه والنفاق هاهنا، وأشار بيده إلى قلبه، ولم يذكر الله إلا قليلًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل له لسانا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، ارزقه حبي وحب من يحبني، وصيّر أمره إلى خير». فقال: يا رسول الله! إنه كان لي أصحاب من المنافقين، وكنت رأسًا فيهم، أفلا آتيك بهم؟ قال: «من أتانا استغفرنا له، ومن أصرّ على دينه، فالله أولى به، ولا تخرقنّ على أحد سترًا»- ورواه الحاكم أيضًا-. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في هذه الآية قال: ما بال أقوام يتكلفون علم الناس، فلان في الجنة وفلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنت بنصيبك أعلم منك بأحوال الناس، ولقد تكلفت شيئًا ما تكلفه الأنبياء قبلك! قال نبيّ الله نوح عليه السلام: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}. اهـ.
|